طلب علم الحديث
صفحة 1 من اصل 1
طلب علم الحديث
طلب علم الحديث
مقدمة في الطلب
فإن من أعظم سعادةِ الرُّوحِ , والقَلْبِ , والبدنِ , طلب العلم النّافع ؛ الذي يَدُلُّ على الله ويقرب العبد منه , فَإِنَّ في مشقةِ هذا العلم لَذَّة لا تعدلها لذة , ولولا جهل الأكثرين بحلاوةِ هذه اللذة , وعِظَمِ قدرها لَتَجالدوا عليه بالسيوف , ولكن حُجبوا عنها بحجاب من جهل , ليخص الله بها من شاء من عباده , والله ذو فضلٍ عظيم , لقد دل الله عليهم ، وأرشد إليهم فقال تَعَالَى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } الآية 43 سورة النحل .
وقال تَعَالَى : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ من كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } آية 122 سورة التوبة .
وما أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الزِّيادة في شــيء في الدُّنيا ، إلا من العلم ، قَالَ تَعَالَى : { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } آية 114 سورة طـه .
وأشاد سبحانه – أيما إشادة ! – بفضل أهل العلم ، ورفع من شأنهم ، وأعلى من قدرهم ، بما يعجز عن بيانه إلا البيان المبين ، من كَلامِ رَبِّ العالمين ، فقد جعلهم سبحانه وتعالى شهودٌ ؛ على أجلِّ مَشْهُودٍ , وقرنهم بخير شُهُودٍ فَقَالَ تَعَالَى : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } آية 18 سورة آل عمران .
وقد ذكر سبحانه فضله ومنته على أنبيائه ورسله وعباده بما آتاهم من العلم , فذكر سبحانه نعمته على خاتم أنبيائه ورسله فَقَالَ تَعَالَى : {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ من شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} آية 113 سورة النساء .
وقال في يوسف عليه السلام : {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } آية 22 سورة يوسف .
وقال في كَلِيمِهِ مُوسى : {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } آية 14 سورة القصص .
وقال في حَقِّ الْمَسِيحِ :{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاس فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} أية 110 سورة المائدة ، فجعل تعليمه مما بشر به أمه وأقر عينها به .
وقال في حَقِّ داود : {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } آية 20 سورة ص .
وقال في حَقِّ الخضر صاحب موسى وفتاه : {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً من عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ من لَدُنَّا عِلْماً } آية 65 سورة الكهف .
{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } آيات 78 - 79 سورة الأنبياء . فذكر النبيين الكريمين وأثنى عليهما بالحكم والعلم , وخص بفهم القضية أحدهما .
وحصر سبحانه الخشية منه على العلماء , فَقَالَ تَعَالَى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } آية 28 سورة فاطر .
وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذين يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } آية 09 سورة الزمر.
وَقَالَ تَعَالَى : { يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذين آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} آية 11 سورة المجادلة .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا ؛ سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ" .
فالعلم دينٌ فانظر ممن تأخذ دينك ، فإن وجدت من تأمنه على دينك ؛ فخُطَاك أشرفُ خُطى ؛ فقد سهل الله لها الطَّريق إلى الجنة .
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ : إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ .
الإخلاص في طلب العلم
فالإخلاص لا يكون إلا بتجريد العمل لله سبحانه وتعالى بحيث لا تشوبه ذرةُ شركٍ , ولا تُحيطُ به شبهةُ رياء , وعلى هذا فإن الإخلاص هو ميزان الأعمال كلها , وعلى قدر توفره يكون الأجر , ويكون بتخليصِ العملِ تَمَامًا لله سبحانه وتعالى .
والإخلاص من أجلِّ عبادات القلب وأعظمها , إذ هو مصفاة الأعمال كُلِّها , فأي عمل لا يقبله الإخلاص فهو هباء منثور , وليس لصاحبه منه إلا النَّصَبُ والتَّعَبُ , قَالَ تَعَالَى : {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاة وَيُؤْتُوا الزّكاة وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } آية 05 سورة البينة .
وقال تَعَالَى : {فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} آيات 02 - 03 سورة الزمر .
وقال تَعَالَى : {قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } آية 11 سورة الزمر .
وقال تَعَالَى : {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } آيات 162 - 163سورة الأنعام .
وعلى ذلك فإنه يجب على طالب العلم أن يحرص على متابعة الإخلاص في نفسه ، و لا يمتنع عن الطلب بدعوى أنه لم يتحقق لديه الإخلاص .
ومعنى الإخلاص في طلب العلم فقال ابن جماعة : "هو حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله تعالى، والعمل به، وإحياء الشريعة وتنوير قلبه وتجلية باطنه والقرب من الله تعالى يوم القيامة، والتعرض لما أعد لأهله من رضوانه وعظيم فضله".
قال سفيان الثوري رحمه الله: "ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي" .
و لا يقصد به الأغراض الدنيوية من تحصيل الرياسة والجاه والمال ومباهاة الأقران، وتعظيم الناس له، وتصديره في المجالس ونحو ذلك فيستبدل الأدنى بالذي هو خير.
قال أبو يوسف رحمه الله:" يا قوم أريدوا بعلمكم الله تعالى، فإني لم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى افتضح".
والعلم عبادة من العبادات وقربة من القرب فإن أخلصت فيه النية قبل وزكي وتمت بركته، وإن قصد به غير وجه الله تعالى، حبط وضاع وخسرت صفقته وربما تفوته تلك المقاصد و لا ينالها فيخيب قصده ويضيع سعيه"اهـ .
أهم الأصول
أن ما يلم به الشيطان قلب بعضهم يريد صرفهم عن العلم بدعوى ترك الطلب حتى يتحقق إخلاص النية، حيلة شيطانية ومكر وخديعة. بل على المسلم أن يستمر في طلب العلم ويتابع نيته، كما قال سفيان الثوري: "ما عالجت شيئاً اشد عليّ من نيتي"، هذا وهو سفيان، فمن باب أولى غيره! فلا يجعل ذلك صارفاً له عن طلب العلم .
ولمّا قال هشام الدستوائي رحمه الله: "والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله".
علّق عليه الذهبي رحمه الله بقوله: "والله ولا أنا". فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا، وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أوّلاً لا لله، وحصّلوه ثم استفاقوا وحاسبوا انفسهم فجرّهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق. كما قال مجاهد وغيره:" طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزقنا الله النية بعد".
وبعضهم يقول:" طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله" فهذا أيضاً حسن، ثم نشروه بنية صالحة.
وقوم طلبوه بنية فاسدة لأجل الدنيا وليثنى عليهم، فلهم مانوَوْا.
قال عليه السلام: "من غزا ينوي عقالاً فله ما نوى" ،وترى هذا الضرب لم يستضيئوا بنور العلم، و لا لهم وقع في النفوس، و لا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله تعالى.
وقوم نالوا العلم وولوا به المناصب فظلموا وتركوا التقيد بالعلم وركبوا الكبائر والفواحش، فتباً لهم فما هؤلاء بعلماء.
وبعضهم من لم يتق الله في علمه بل ركب الحيل وأفتى بالرخص وروى الشاذ من الأخبار.
وبعضهم اجترأ على الله، ووضع الأحاديث فهتكه الله وذهب علمه، وصار زاده إلى النار.
وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئاً كبيراً وتضلعوا منه في الجملة، فخلف من بعدهم خلف بأن نقصهم في العلم والعمل وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير أوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يدر في أذهانهم قط أنهم يتقربون به إلى الله؛ لأنهم ما رأوا شيخاً يقتدى به في العلم، فصاروا همجاً رعاعاً غاية المدرس منهم أن يحصل كتباً مثمنة يخزنها وينظر فيها يوماً ما، فيصحف ما يورده و لا يقرره، فنسأل الله النجاة والعفو، كما قال بعضهم:" ما أنا عالم و لا رأيت عالماً".
هذا الأصل من الأصول المهمة وهو أن على الطالب أن يحرص على تحقيق الإخلاص لله عز وجل في طلبه للعلم وتحقيق الإخلاص أمر مطلوب قال تعالى :{وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ } البينة ، وكما تقدم طلب العلم الشرعي فيما يتحقق به عبادة الله هو من عبادة الله وهو من تحقيق لا إله إلا الله وبالتالي هو عبادة ينبغي أن يحرص فيها على الإخلاص والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى "، وعليه نقول : يجب على طالب العلم أن يحرص على تصحيح النية وإخلاصها لله عز وجل .
قد يقول قائل :هل معنى هذا أني لا أطلب العلم حتى أصحح نيتي ؟
أقول : لا ، أطلب العلم. وأنت في طلبك راجع نفسك وعالج نفسك في باب تصحيح النية .
فإن قال : أنا أريد أن أترك طلب العلم حتى أصحح نيتي ؟
أقول : هذه حيلة شيطانية فتح لك باباً من أبواب الخير يريد أن يصرفك عن ما هو خير وأولى،ولذلك استمر في طلب العلم وعالج نفسك فإن في علمك سيهديك إن شاء الله إلى إخلاص النية لله تعالى. والسلف كانوا يقولون :"طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون العلم إلا لله" .
شرف العلم
ومما لا نزاع فيه أن العلوم تتفاوت في مقدار ذلك الشرف ، منها الشريف والأشرف ، و المهم و الأهم ،
ومهما يتصور لعلوم الفلسفة الطبيعيات والرياضيات ولأدبيات والصناعيات وغيرها من العلوم الكونيات – مهما يتصور لها من الشرف والفضيلة ، والمرتبة الرفيعة – فإنها لا تداني في ذلك العلم – الذي مع مشاركته لها في ترقية المدارك ، وتنوير العقول – ينفرد عنها بإصلاح الأخلاق ، وتحصيل السعادة الأبدية ، وهو علم الدين .
مهما ترقى الإنسان في الصنائع و المعارف الكونية ، و تسهيل أسباب الراحة ، فان ذلك إن رفعه عن البهيمية من جهة، فانه ينزل به عنها من جهة أخرى ، ما لم تتطهر أخلاقه ، فيتخلق بالرأفة و الرحمة و الإيثار و العفة و التواضع و الصدق و الأمانة و العدل و الإحسان ، و غيرها من الأخلاق الكريمة.
العلم والأخلاق
كل من كان له وقوف على الأمم والأفراد في هذا العصر ، علم أنه بحق أنه يسمى عصر العلم ، و لكنه يرى أنه مع ذلك يجب أن يسمى – بالنظر إلى تدهور الأخلاق – اسما آخر ..
النفوس الأرضية تربة من شأنها إن تنبت الأخلاق الذميمة ما لم تسق بماء الإيمان الطاهر ، و تشرق عليها شمس العلم الديني الصحيح ، و تهب عليها رياح التذكير الحكيم , فأي أرض أمحلت من ذلك الماء ، و حجب عنها شعاع تلك الشمس ، و سدت عنها طرق تلك الرياح ، كان نباتها كما قال الملائكة عليهم السلام :" أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء " البقرة .
أهـل الحــديـث
هم أهل السنة والجماعة ، وهم السلف رضي الله عنهم , ويرمز إليهم لأنهم رأس الناس , وسلفهم في كل خير , ومن تبعهم ونحا نحوهم ؛ كان منهم وهو معهم ؛ إذ لا ينفصل الجسد عن الرأس , ولعلّ أخصّ أوصاف أهل الحديث , أنهم يحتجّون بفهم سلف الأمّة ؛ الصحابة , والتابعين لهم بإحسان ، ويستندون في ذلك إلى قوله تعالى : { وَمَنْ يُشاَقِقِ الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَاتَبَيّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَاتَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسآءتْ مَصِيراً} النساء .
فقد عد سبحانه اتباع غير سبيل المؤمنين - الصحابة ومن نحا نحوهم - ممن تولاه الله ما تولى ، ومأواه جهنم , وساءت مصيرا .
والمقصود بالمؤمنين , هم : الصحابة , ومن سار على هديهم , وتبعهم إلى قيام الساعة , ومن أولى بهذا من أهل الحديث والأثر .
عَنْ ثَوْبَانَ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ , لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ , حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ , وَهُمْ كَذَلِكَ" .
قال يزيد بن هارون رحمه الله , شارحاً الحديث : إن لم يكونوا أصحاب الحديث ، فلا أدري من هم ؟ ، وقال بمثله الإمام أحمد أيضاً، وعلي بن المديني ورواه البخاري .
قال الشافعي رحمه الله : إذا رأيت رجلاً من أصحابِ الحديث ، فكأني رأيتُ رجلاً من أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم , جزاهم اللهُ خيراً , هم حفظوا لنا الأصل , فلهم علينا الفضل.
وقال : عليكم بأصحاب الحديث , فإنهم أكثر الناس صواباً.
وعن يزيد بن هارون , قال : قلت لحماد بن زيد : هل ذكر الله أصحاب الحديث في القرآن قال : نعم , الله يقول : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } سورة التوبة .
فنتبين من هذا أن الفرقة الناجية , هم : السواد الأعظم من المسلمين ؛ الذين ساروا على منهج الصحابة رضي الله عنهم , ومن تبعهم إلى يوم القيامة ؛ من العلماء , و العباد , و الدعاة , و المجاهدين , وعوام الناس على مختلف طبقاتهم , فمن سار على هذا المنهج ولم يشذ ؛ فهو منهم إن شاء الله تبارك وتعالى .
وستبقى هذه الطائفة , كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم تدعو إلى الحق والخير , وتأمر بالمعروف , وتنهى عن المنكر ، وتدحض البدع والشبهات المضللة بالحجج والبراهين , وتجاهد الباطل حسب استطاعتها باليد و اللسان و القلب ، فعلى المؤمن الثبات على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في عقيدته وعبادته و أخلاقه , و عليه الأخذ بسنة نبيه و الإقتداء بأمره و مجانبة الأهواء و المعاصي و البدع , ثم الدعوة إلى الحق و بذل ما يستطيعه في نصرة دينه , ليلحق بمن سلف , فهم كانوا مفاتيح الحق , مغاليق الشر , فكم من جاهل علَّموه ، و من ضال قد ردوه , و هم مصابيح الهدى و النور الذي بهم يستضاء و يقتدى .
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما , قال : لما خرجت الحرورية , اجتمعوا في دار وهم ستة آلاف , أتيت علياً فقلت : يا أمير المؤمنين أبرد بالظهر ؛ لعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم , قال : أني أخاف عليك , قلت : كلا , قال ابن عباس : فخرجت إليهم , ولبست أحسن ما يكون من حلل اليمن , فأتيتهم وهم مجتمعون في دارهم قائلون , فسلمت عليهم , فقالوا : مرحباً بك يا ابن عباس , فما هذه الحلة ؟ قال : قلت : ما تعيبون علي ؟ لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحلل , ونزلت : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ } سورة الأعراف . قالوا : فما جاء بك , قلت : أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم , من المهاجرين والأنصار , لأبلغكم ما يقولون ؛ المخبرون بما يقولون فعليهم نزل القرآن , و هم أعلم بالوحي منكم , وفيهم أنزل , وليس فيكم منهم أحد , فقال بعضهم : لا تخاصموا قريشا , فإن الله يقول : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } الزخرف , قال ابن عباس : و أتيت قوماً لم أر قوما قط أشد اجتهاداً منهم , مسهمة وجوههم من السهر , كأن أيديهم وركبهم تثني عليهم , ثم ناظرهم فرجع من القوم ألفان , وقتل سائرهم على ضلالة .
وعن يَزِيدِ الْفَقِيرِ ، قَالَ : كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِي , رَأْيٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ , فَخَرَجْنَا فِي عِصَابَةٍ ذَوِي عَدَدٍ نُرِيدُ , أَنْ نَحُجَّ ثُمَّ نَخْرُجَ عَلَى النَّاسِ ، قَالَ : فَمَرَرْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ فَإِذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَالِسٌ إِلَى سَارِيَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ : فَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْجَهَنَّمِيِّينَ , قَالَ : فَقُلْتُ لَهُ : يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ , مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُونَ ؟ وَاللَّهُ يَقُولُ : " إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ"آل عمران , "كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا " السجدة 20, فَمَا هَذَا الَّذِي تَقُولُونَ ؟ قَالَ : فَقَالَ : أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ , قَالَ : فَهَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَام يَعْنِي الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ فِيهِ , قُلْتُ : نَعَمْ , قَالَ : فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يُخْرِجُ , قَالَ : ثُمَّ نَعَتَ وَضْعَ الصِّرَاطِ , وَمَرَّ النَّاسِ عَلَيْهِ , قَالَ : وَأَخَافُ أَنْ لَا أَكُونَ أَحْفَظُ ذَاكَ , قَالَ : غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ زَعَمَ أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا , قَالَ : يَعْنِي فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ , قَالَ : فَيَدْخُلُونَ نَهَرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ الْقَرَاطِيسُ , فَرَجَعْنَا , قُلْنَا : وَيْحَكُمْ , أَتُرَوْنَ الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟! فَرَجَعْنَا ، فَلَا وَاللَّهِ مَا خَرَجَ مِنَّا غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ .
قال عبد الحق الإشبيلي : أراد بالرأي الذي شغفه من رأي الخوارج , تكذيبهم بالشفاعة , وقولهم إنه من دخل النار من المذنبين فلن يخرج منها .
وكذلك من تبعهم وسار على نهجهم ؛ كان لهم الفضل , والسبق في تقويم من اعوج وإصلاح من تلف . فهذا سفيان الثوري وفقه الله إلى السنة عن طريق أيوب السختياني . قال رحمه الله : كانت الخشبية قد أفسدوني ,حتى أنقذني الله بأربعة لم أر مثلهم : أيوب و يونس و ابن عون وسليمان التيمي , الذين يرون أنه لا يحسن أن يُعصى الله .
وكذلك هو رحمه الله كان له فضلٌ ومنة على طُلَّابهِ في اتباع عقيدة السَّلف ، فقد كان سبباً في إنقاذ الإمام يوسف بن أسباط من ضلالتينِ !! القدر والرفض ، وظلّ بعد ملازما لسفيان كظله 0قال يوسف بن أسباط : كان أبي قَدَرياً ، وأخوالي روافض ، فأنقذني الله تعالى بسفيان . وعبد الله ابن وهب : لولا مالك بن أنس لضللت عن الطريق .
قال الحاكم عن موسى بن هارون قال سمعت أحمد بن حنبل يقول وسئل عن معنى هذا الحديث :" لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ " فقال: إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري من هم , قال الإمام أبو عبد الله الحاكم تعقيباً على كلام الإمام أحمد : وفي مثل هذا قيل من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحق فلقد أحسن أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر أن الطائفة المنصورة التي يرفع الخذلان عنهم إلى قيام الساعة هم أصحاب الحديث , ومن أحق بهذا التأويل من قوم سلكوا محجة الصالحين, واتبعوا آثار السلف من الماضين , ودمغوا أهل البدع والمخالفين بسنن رسول الله صلى الله عليه وعلى اله أجمعين من قوم آثروا قطع المفاوز والقفار , على التنعم في الدمن والأوطار , وتنعموا بالبؤس في الأسفار مع مساكنة العلم والأخبار , وقنعوا عند جمع الأحاديث والآثار بوجود الكسر والأطمار ، قد رفضوا الإلحاد الذي تتوق إليه النفوس الشهوانية , وتوابع ذلك من البدع والأهواء والمقاييس والآراء والزيغ , جعلوا المساجد بيوتهم , وأساطينها تكاهم , وبواريها فرشهم , قال حفص بن غياث وقيل له ألا تنظر إلى أصحاب الحديث وما هم فيه ؟! قال هم خير أهل الدنيا , وعن أبي بكر بن عياش قال إني لأرجو أن يكون أصحاب الحديث خير الناس يقيم أحدهم ببابي وقد كتب عني , فلو شاء أن يرجع ويقول : حدثني أبو بكر جميع حديثه فعل إلا أنهم لا يكذبون , قال أبو عبد الله : ولقد صدقا جميعا إن أصحاب الحديث خير الناس , وكيف لا يكونون كذلك , وقد نبذوا الدنيا بأسرها وراءهم , وجعلوا غذاءهم الكتابة , وسمرهم المعارضة واسترواحهم المذاكرة , وخلوقهم المداد ونومهم السهاد , واصطلاءهم الضياء , وتوسدهم الحصى , فالشدائد مع وجود الأسانيد العالية عندهم رخاء , ووجود الرخاء مع فقد ما طلبوه عندهم بؤس , فعقولهم بلذاذة السنة غامرة ، وقلوبهم بالرضاء في الأحوال عامرة , تعلم السنن سرورهم , ومجالس العلم حبورهم ، وأهل السنة قاطبة إخوانهم , وأهل الإلحاد والبدع بأسرها أعداؤهم .أهـ
وعن يزيد بن هارون قال : قلت لحماد بن زيد هل ذكر الله أصحاب الحديث في القرآن قال : بلى ، الله يقول :" وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ " سورة التوبة .
قال الخليفة المأمون : ما بقي من لذة الدنيا لذة إلا نلتها ؛ إلا قول المستملي من ذكرت -يعن سماع الحديث - فاجتمع من في الدار من الخدم والأولياء واتخذوا دفاتر ومحابر وحدثهم بتسعة أحاديث فلما فرغ قال : ما ألذه لو كان في أهله .
ينابيع الإسلام
للدين - وهو الإسلام - ينبوعان عظيمان : كتاب الله عز و جل ، و سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ..
تعريف السنة
السنة عبارة عما : ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم من الأقوال و الأفعال و غيرها مما هو تبيين للقرآن ، و تفصيل للأحكام ، و تعليم للآداب ، و غير ذلك من مصالح المعاش و المعاد.
الصحابة والسنة
أول من تلقى السنة هم الصحابة الكرام ، فحفظوها و فهموها ، و علموا جملتها و تفصيلها ، و بلغوها – كما أمروا- إلى من بعدهم .
ثم تلقاها التابعون ، و بلغوها إلى من يليهم . و هكذا ، فكان الصحابي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول كيت و كيت ، و يقول التبعي : سمعت فلانا الصحابي يقول : سمعت النبي صلى الله عليه واله وسلم ، و يقول الذي يليه : سمعت فلانا يقول : سمعت فلانا الصحابي يقول : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم وهكذا.
الحاجة إلى حفظ السنة
كل من علم أن محمدا صلى الله عليه وآله و سلم خاتم الأنبياء، وأن شريعته خاتمة الشرائع و الحياة الأبدية في اتباعه : يعلم أن الناس أحوج إلى حفظ السنة منهم إلى الطعام والشراب.
وجوب معرفة أحوال الرجال
قد وقعت الرواية ممن يجب قبول خبره ، و ممن يجب رده ، و ممن يجب التوقف فيه، و هيهات أن يعرف ما هو من الحق الذي بلغه خاتم الأنبياء عن ربه عز و جل ، و ما هو الباطل الذي يبرأ عنه الله و رسوله ، إلا بمعرفة أحوال الرواة.
وهكذا الوقائع التاريخية ، بل حاجتها إلى معرفة أحوال رواتها أشد ، لغلبة التساهل في نقلها. على إن معرفة أحوال الرجال هي نفسها من أهم فروع التاريخ . و إذا كان لا بد من معرفة أحوال الرواة ، فلا بد من بيانها ، بأن يخبر كل من عرف حال راو بحاله ليعلمه الناس. و قد قامت الأمة بهذا الفرض كما ينبغي.
أول من تكلم بأحوال الرجال
أول من تكلم في أحوال الرجال القرآن ، ثم النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، ثم أصحابه. و الآيات كثيرة في الثناء على الصحابة إجمالا ، و ذم المنافقين إجمالا ، و وردت آيات في الثناء على أفراد معينين من الصحابة – كما يعلم ممن كتب الفضائل – و آيات في التنبيه على نفاق أفراد معينين ، و على جرح أفراد آخرين. وأشهر ما جاء في هذا قوله تعالى:" إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا " الحجرات . نزلت في رجل بعينة ، كما هو معروف في موضعه ، وهي مع ذلك قاعدة عامة.
أحاديث الفضائل
وثبتت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث كثيرة في الثناء على أصحابه جملة، و على أفراد منهم معينين ، معروفة في كتب الفضائل ، و أحبار أحر في ذم بعض الفرق إجمالا ، كالخوارج ، و في تعيين المنافقين و ذم أفراد معينين ، كعيينة بن حصن ، و الحكم بن أبي العاص . وثبتت آثار كثيرة عن الصحابة في الثناء على بعض التابعين، و آثار في جرح أفراد منهم.
التابعون والجرح و التعديل
وأما التابعون ، فكلامهم في التعديل كثير ، ولا يروى عنهم من الجرح إلا القليل، و ذلك لقرب العهد بالسراج المنير – عليه و على آله افضل الصلاة و التسليم - ، فلم يكن أحد من المسلمين يجترئ على الكذب على الله ورسوله . و عامة المضعفين من التابعين إنما ضعفوا للمذهب ، كالخوارج أو لسوء الحفظ أو للجهالة .
ثم جاء عصر أتباع التابعين عما بعده ، فكثر الضعفاء ، و المغفلون ، و الكذابون ، و الزنادقة ، فنهض الأئمة لتبيين أحوال الرواة و تزييف ما لا يثبت ، فلم يكن مصر من أمصار المسلمين إلا و فيه جماعة من الأئمة يمتحنون الرواة ، و يختبرون أحوالهم و أحوال رواياتهم ، و يتتبعون حركاتهم و سكناتهم ، و يعلنون للناس حكمهم عليهم.
كتب الرجال
استمر ذلك إلى القرن العاشر ، فلا تجد في كتب الحديث اسم راو إلا وجدت في كتب الرجال تحقيق حاله ، و هذا مصداق الوعد الإلهي – قيل لابن المبارك : هذه الأحاديث المصنوعة ؟؟ قال : تعيش لها الجهابذة ، و تلا قول الله سبحانه و تعالى :" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" الحجر .
الرحلة لتحقيق العلم
و كان نشاط الأئمة في ذلك آية في من الآيات ؛ فمن أمثلة ذلك : قال العراقي في شرح مقدمة ابن صلاح روينا عن مؤمل أنه قال : حدثني شيخ بهذا الحديث – يعني حديث فضائل القرآن سورة سورة – فقلت للشيخ : من حدثك ؟ فقال : حدثني رجل بالمدائن وهو حي ، فصرت إليه ، فقلت : من حدثك ؟ فقال : حدثني شيخ بواسط ، وهو حي؛ فصرت إليه ، فقال : حدثني شيخ بالبصرة ، فصرت إليه ، فقال : حدثني شيخ بعبادان ، فصرت إليه، فأخذ بيدي ، فأدخلني بيتا ، فإذا فيه قوم من المتصوفة / و معهم شيخ ، فقال : هذا الشيخ حدثني ، فقلت : يا شيخ من حدثك ؟ فقال : لم يحدثني أحد ، و لكننا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن ، فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن. لعل هذا الرجل قطع نحو ثلاثة أشهر مسافرا لتحقيق رواية هذا الحديث الواحد.
طرق اختبار الرواة
للأئمة في اختبار الرواة ؛ منها : النظر في حال الراوي في المحافظة على الطاعات و اجتناب المعاصي، و سؤال أهل المعرفة به.
قال الحسن بن صالح بن يحيى : كنا إذا أردنا أن نكتب عن الرجل سألنا عنه ، حتى يقال : أتريدون أن تزوجوه ؟؟ .
و منها أن يحدث أحاديث عن شيخ حي، فيسأل الشيخ عنها . مثاله : قول شعبة: قال الحسن بن عمارة: حدثني الحكم ، عن يحيى بن الجزار ، عن علي سبعة أحاديث ، فسألت الحكم عنها؟ فقال : ما سمعت منها شيئا.
و منها أن يحدث عن شيخ قد مات ، فيقال للراوي : متى ولدت ؟ و متى لقيت هذا الشيخ ؟ و أين لقيته ؟ ثم يقابل بين ما يجيب به و بين ما حفظ من وفاة الشيخ الذي روى عنه و محل إقامته و تواريخ تنقله . و مثاله : ما جاء عن عفير بن معدان أن عمر بن موسى بن وجيه حدث عن خالد بن معدان ، قال عفير : فقلت له في أي سنه لقيته ؟ قال سنة ثمان و خمسين و مائة ، في غزاة أرمينية . قلت اتق الله يا شيخ ، لا تكذب ، مات خالد سنة أربع و خمسين و مائة ، أزيدك أنه لم يغز أرمينية .
ومنها : أن يسمع من الراوي أحاديث عن مشايخ قد ماتوا، فتعرض هذه الأحاديث على ما رواه الثقات عن أولئك المشايخ، فينظر : هل انفرد هذا الراوي بشيء أو خالف أو زاد و نقص؟ فتجدهم يقولون في الجرح . ينفرد عن الثقات بما لا يتابع عليه ، في حديثه مناكير يخطئ و يخالف ونحو ذلك.
حفظ أهل الحديث
و منها : أن يسمع الراوي عدة أحاديث ، فتحفظ أو تكتب ، ثم يسأل عنها بعد مدة ، و ربما كرر السؤال مرارا لينظر : أيغير أو يبدل أو ينقص ؟
دعا بعض الأمراء أبا هريرة ، و سأله أن يحدث – و قد خبأ الأمير كاتبا حيث لا يراه أبو هريرة – فجعل أبو هريرة يحدث و الكاتب يكتب ، ثم بعد سنة دعا الأمير أبا هريرة ، ودس رجلا ينظر في تلك الصحيفة ، و سأل أبا هريرة عن تلك الأحاديث ؟
فجعل يحدث و الرجل ينظر في الصحيفة ، فما زاد وما نقص و لا قدم و لا أخر .
و سأل بعض الخلفاء ابن شهاب الزهري أن يملي على بعض ولده ، فدعا بكاتب ،فأملى عليه أربع مائة حديث ، ثم إن الخليفة قال للزهري بعد مدة : إن ذلك الكتاب قد ضاع . فدعا الكاتب فأملاه عليه ، ثم قابلوا الكتاب الثاني على الكتاب الأول ، فما غادر حرفا .
وكانوا كثيرا ما يبالغون في الاحتياط ، حتى قيل لشعبة : لم تركت حديث فلان ؟ قال : رأيته يركض على برذون . وقال جرير : رأيت سماك بن حرب يبول واقفا فلم أكتب عنه . وقيل للحكم بن عتيبة : لم لم ترو عن زاذان ؟ قال كان كثير الكلام.
مخالطة الأمراء
وكانوا يطعنون فيمن خالط الأمراء ، أو قبل عطاياهم ، أو عظمهم ، بل ربما بالغوا في ذلك ، كما وقع لمحمد بن بشر الزنبري المصري مع سعة علمه ، كان يملي الحديث على أهل بلده فاتفق أن خرج الملك غازيا ، فخرج الزنبري يشيعه ، فلما انصرف و جلس يوم الجمعة عي مجلسه ، قام إليه أصحاب الحديث فنزعوه من موضعه ، و سبوه و هموا به ، و مزقوا رواياتهم . ثم ذكره ابن يونس في تاريخ مصر فقال : لم يكن يشبه أهل العلم.
إنما كانوا يتسامحون فيمن بلغ من الجلالة بحيث يعلم أنه إنما يخالط الأمراء ليأمرهم بالمعروف ، و ينهاهم عن المنكر ، و يكفهم عن الباطل ما استطاع ، كالزهري و رجاء بن حيوة . و روى الشافعي ، قال : دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك ، فقال له : يا سليمان ، الذي تولى كبره من هو ؟ يعني في قول الله تعالى :" وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ " النور . ، - قال : عبد الله بن أبي ، قال كذبت ، هو فلان قال : أمير المؤمنين أعلم بما يقول ، فدخل الزهري ، فقال : يا ابن شهاب ، من الذي تولى كبره؟ قال : ابن أبي / قال : كذبت ، هو فلان . فقال الزهري لهشام : أنا أكذب لا أبا لك ؟ و الله لو نادى مناد من السماء : إن الله أحل الكذب ما كذبت ، حدثني عروة و سعيد و عبيد الله و علقمة ، عن عائشة : أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي . و ذكر تمام القصة و فيها خضوع هشام للزهري و استرضاؤه له .
و قد وقعت للزهري قصة تشبه هذه مع الوليد بن عبد الملك ، و فيها : أن الوليد قال له : يا أبا بكر ! من تولى كبره أليس فلانا ؟ قال الزهري : قلت : لا ! فضرب الوليد بقضيبه على السرير : فمن ؟ فمن ؟ حتى ردد ذلك مرارا ، قال الزهري : لكن عبد الله بن أبي . و في جواب سليمان لهشام لطيفة ، حيث لم يقل : ( أمير المؤمنين أعلم ) و يسكت ، بل قال أعلم : بما يقول ، أي : أعلم بقول نفسه ، لا أعلم بحقيقة الحال ، و لكن المقام بم يكن لتغني فيه مثل هذه الإشارة ، فلذلك قيض الله تعالى الزهري و وفقه ، فقال ما قال . وقوله لهشام - وهو الملك- { لا أبا لك } جرأة عظيمة .
ورع أهل الحديث
و كانوا من الورع و عدم المحاباة على جانب عظيم ، حتى قال زيد بن أبي أنيسة : أخي يحيى يكذب .
و سئل جرير بن عبد الحميد عن أخيه أنس ، فقال : قد سمع من هشام بن عروة ، و لكنه يكذب في حديث الناس فلا يكتب عنه.
وروى علي بن المدينــي عن أبيه ، ثم قال : وفي حديث الشيخ ما فيه .
وقال أبو داود : ابني عبد الله كذاب.
و كان الإمام أبو بكر الصبغي ينهى عن السماع من أخيه محمد بن إسحاق.
حفظ علماء السلف لتراجم الرجال
كان الرجل لا يسمى عالما حتى يكون عارفا بأحوال رجال الحديث .
ففي " تدريب الراوي " قال الرافعي و غيره : إذا أوصي للعلماء لم يدخل الذين يسمعون الحديث ولا علم لهم بطرقه ولا بأسماء الرواة . و قال الزركشي : أما الفقهاء، فاسم المحدث عندهم لا يطلق إلا على من حفظ متن الحديث، و علم عدالة رواته و جرحها . وقال التاج السبكي : إنما المحدث من عرف الأسانيد والعلل وأسماء الرجال . وذكر عن المزي أنه سئل عمن يستحق اسم الحافظ، فقال:" أقل ما يكون أن يكون الرجال الذين يعرفهم و يعرف تراجمهم و أحوالهم و بلدانهم أكثر من الذين لا يعرفهم ليكون الحكم للغالب" .
فكان العالم يعرف أحوال من أدركهم ، إما باختباره لأحوالهم بنفسه ، و إما بإخبار الثقات له ، و يعلم أحوال من تقدمه بأخبار الثقات ، أو بإخبار الثقات عن الثقات . و هكذا و يحفظ ذلك كله ، كما يحفظ الحديث بأسانيده ، حتى كان منهم من يحفظ الألوف ، و منهم من يحفظ عشرات الألوف و منهم من يحفظ مئات الألوف بأسانيدها . فكذلك كانوا يحفظون تراجم الرواة بأسانيدها ، فيقول أحدهم أخبرني فلان أنه سمع فلانا قال : قال فلان : لا تكتبوا عن فلان ، فانه كذاب . وهكذا..
فلا بد لمن أراد أن يدخل في هذا العلم أن يحدد الهدف والمطلوب من علمه ثم تصحيح النية ثم الشروع في الطلب على أيدي علماء متخصصين أو طلبة علم تلقوا عن مشايخ وهم على دراية بهذا العلم .
..انتهى..
لفضيلة الشيخ صلاح الدين عبد الموجود
hicham
مسؤول ادارة المنتدى
مصمم خاص للمنتدى-
عدد المساهمات : 728
نقاط : 10432
تاريخ التسجيل : 25/01/2009
الموقع : www.alokab.alafdal.net
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى